التراتبية الجنسية والاجتماعية في النص القرآني
لا تكف أنظمة إنتاج المعرفة والمفاهيم عن هيمنتها في تشكيل الوعي الإنساني، وهي تحكم سيطرتها، بخاصة إذا كانت هذه الأنظمة هي من يمثل الوصاية الثقافية والأخلاقية للمجتمع، فتفرض نفسها ضمن أحقية عليا، لا تكتفي بمجرد حق الصياغة الوجودية للحكاياة السردية العليا للإنسان على الأرض، وإنما يكون لها حضوراً فاعلاً في تشكيل رؤيتنا لذواتنا ولغيرنا وللعالم، من خلال ما تؤسسه في خطابها من مفاهيم عديدة تطال نواحي مختلفة من حياة الإنسان.
يعتبر الدين أحد أهم المؤثرات الذهنية والسلوكية في حياة الإنسان، ورغم تنوع الديانات في المجتمع العربي إلا أن الفعالية الكبرى هي للإسلام كون غالبية العرب يدينون به، وبالاستناد إلى الحضور الفاعل له كنظام مؤسس لمفاهيم عديدة، ستحاول الدراسة أن تقارب أثر النص القرآني في إحداث تصورات للثقافة الجنسية في وعي الإنسان العربي، والكيفية التي تؤثر بها هذه الثقافة المتشكلة في وعيه وتصوراته على الأدوار الاجتماعية والعلاقة بين الجنسين في المجتمع. إذ يمكن القول أن الهندسة الاجتماعية لثنائية الذكر والأنثى في المجتمعات العربية[1] تجد جذور عميقة لها في التصور الديني لدور كل منهما في الفعل الجنسي والفعل الاجتماعي، وثمة ما يمكن وصفه بعلاقة انعكاسية بين تصورات الفعل الجنسي وتصورات الفعل الاجتماعي داخل النص الديني نفسه. وبالتالي يصبح السؤال: إلى أي مدى يمكن القول بأن النص الديني يحتوي خطاباً جنسياً يتحمل المسؤولية أو شقاً منها في إنتاج ذكورية المجتمع من جهة، واحتجاب المرأة وغياب حضور فاعل لها؟
يرى ميشال فوكو في كتابه ارادة العرفان وهو الكتاب الأول من مشروعه في كتابة تاريخ الجنسانية الغربية أن «الحضارات التي مارست قمعاً تجاه الجنس وصادرت خطابه تمتاز بكونها حضارات مضطربة سلوكياً ومعرفياً، الأمر الذي يعني أن مجتمعات هذه الحضارات ستظل تعاني قمعاً واضطراباً في سلوكها الاجتماعي والسياسي والديني، وأن عليها، إذ ما أرادت أن تسير نحو التفاعل والعقلانية والتنمية الشاملة، أن تقوم بتصويب مسيرتها الجنسية ومراجعة سجلها الجنسي ومساءلته»[2].
وبمقارنة الماضي بالحاضر يمكن الحديث عن مسار معكوس لتناول موضوع الجنس في الفكر العربي والإسلامي، ففي حين شهد تاريخ الفكر في العصور القديمة انفتاح وجرأة كبيرتين في تناول موضوع الجنس[3]، فإننا اليوم، نجد أن موضوع الجنس أقل ما يقال عنه اليوم بأنه المغمور، المسكوت عنه، وبدورها؛ تأتي هذه الدراسة كمحاولة تهدف إلى نقله من مجال المسكوت عنه واللامفكر فيه إلى مجال القول والفكر. ولكن لماذا مفهموم الجنس؟ أو ما هي أهمية تفكيك الخطاب الجنسي؟
تنبع أهمية تفكيك الخطاب حول الجنس من كونه خطاباً شاملاً يقدم رؤى وتصورات عامة ومفصلة عن المجتمعات وفاعلية الأفراد فيها، وهذا ما ستسعى هذه الدراسة لتوضيحه وتبيانه، وبذلك تأتي عملية تكوين وعي نقدي على الخطاب الجنسي المهيمن على وعي الإنسان العربي، كمحالة يمكن أن تسهم في إحداث مساحة ضوء على جانب مهم من تحرير الوعي العربي بشكل عام.
ولكن لماذا مفهوم الجنس في النص القرآني بالذات؟ رغم أن موضوع الجنس كان حاضراً في مجالات عدة، وهنالك في الحقيقة فعاليات كثيرة ساهمت في إنتاجه كمفهوم وتصور وهي النص القرآني والحديث النبوي والفقه واللغة العربية والسياسية والاقتصاد وغيرها، إلا أن هذه الدراسة ستختص وتتحدد بتفكيك الخطاب القرآني حوله؛ فبرغم النزعة المحافظة المحتاطة فيه؛ يمكن القول، بأنه يحتوي خطاباً شاملاً ومتكاملاً حول الجنس، يتضمن ما يمكن الإشارة اليه بصورة نموذجية للجنس، تظهر كمؤثر فاعل، تفرض نفسها، على صياغة حضور كل من الرجل والمرأة في المجتمع. هذا بالإضافة إلى كون الخطاب القرآني خطاباً مؤسساً في الثقافة العربية، فهو خطاب مقدس ساهم وأثر في إنتاج الخطابات اللاحقة.
[1] -المقصود بالهندسة الاجتماعية لثنائية الرجل والمرأة هو التصورات الاجتماعية لمكانة وحضور كل منهما اجتماعياً.
[2] – ميشال فوكو. تاريخ الجنسانية الجزء الأول «إرادة العرفان». ترجمة محمد هشام. 2004. المغرب: أفريقيا الشرق، ص33.
-[3] يبين صلاح الدين المنجد وجود ما يسميه بخطاباً عربياً قائماً بحد ذاته عن الجنس في العصور الإسلامية المزدهرة حيث يشير إلى وجود مؤلفات جنسية عربية متنوعة سواء في العصر الجاهلي وفي العصور الإسلامية بخاصة الأموي والعباسي. للمزيد من الاطلاع، أنظر صلاح الدين، المنجد. الحياة الجنسية عند العرب من الجاهلية إلى أواخر القرن الرابع الهجري . 1975. دار الكتاب للطباعة والنشر والتوزيع، ص79-94.